Forums  

أنا ماروني...لأنني

  

      قبل أن أعي ناسك قورش القديس مارون، أعطتني أمي مارونيتي في أحشائها، فخرجت إلى العالم ، وأدركت شيئاً فشيئاً هذه المارونية العظيمة. أدركتها في العرق المتصبّب من جباه أجدادنا وآبائنا، وفي صلاة العجائز يرفعونها بحرارة وصدق في معبد العذراء مريم. لقد علّمني والدي وأفهمني سيرة مارون. وعندما كبرت، تبدّى لي مارون في صلابة إرادتنا وثبات إيماننا وسماحة قلوبنا.

      هكذا تأصّلت المارونية في قلبي وتصرفاتي ومعاملتي للناس ومع الناس، على أنّها حبّة خردل نمت شجرة في أحب قرية، تكحّلت أغصانها بنور حريّة بلادي، وسرت دماء فكرٍ فقدّمت للعالم ثمارها فلاسفة وكتّاباً وكهنة واناساً عصاميين حوّلوا الوعر الى ارضٍ خيّرةٍ معطاء. هؤلاء تثبّتوا وثبّتوا لمحيطهم أمانة وإيمان وقدسيّة مارون. هذه المسؤوليّة غدت فضيلتنا الأولى نتناقلها ونزرعها في كل صقعٍ من أصقاع الدنيا.

 

      أنا لا أتسوّل، ولا أسأل مارونيتي من أحد. فنحن إن لم نكن نحن بهذه الفضائل، فلا أحد يقدر أو يقوى أن يجعلنا...

      بفضائل مارون حصّنّا تراب قريتنا. كنَا حرَاساً أمينين راسخين بمبادئنا رسوخ سنديان لبنان. فمنذ العصور الغابرة وحتى اليوم، كنَا ننتفض، كلَّما قست علينا الأيَام وداهمتنا المصاعب، فنعيد ما تهدّم ونتحوّل إلى حبَة الحنطة التي أعطت حبوباً.

      أرض بلدتي الجيّة هي رماد أجيال عبرت، وأجيال عصامية صامدة، وأجيال مباركة قادمة على وجوهها قداسة مارون، وفي قلوبها عظمة إيمانه وفي أيديها عطاء محبة لا ينضب.

      نحن لا نطلب من أحد أن يمرّ بنا فيكرّس مارونيتنا. لا. فالأرض التي وطِئتها أقدام القديسين الأجداد والآباء هي أرض تكرّست وسمت بترابها فوق كل تراب، واعتلت بعنفوانها حتى طالت السماء...

      نحن نُعطي الناس مما أفاض مارون علينا، ما هم فقراء إليه.

      نحن كتبنا على بوابة الزمن: من هنا انطلقت المارونية، وعلى جبهة الشمس رسمنا بيانها، وعلى وجه القمر دوّنا تراتيل صلاتها.

      نحن الأرغفة الخمسة والسمكات الثلاث التي أشبعت العالم..

      قبل أن يكون أحد كنا... ومن هنا طريق السماء...

      نحن جرحنا المجد لنكتب بدمه إسم قريتنا.

      تُرى، إذا أنصتنا إلى داخلنا، ألا نسمع الآباء يعلّمون والأمهات يصلّين؟ هذه هي المارونية: فمٌ يعلّم، قلبٌ يصلي ويدٌ تعمل وتجني.

      نحن لم نقطف من شجرة المجد ثمرة لأننا نحن المجد.

      ولا تظنّن يا أخي أن الحياة كانت قبل أن يُنادى بك مولوداً، لأنك أنت الحياة، وبنا تذهب الحياة. ألمرأة النازفة، لو لم تأخذ إيمانها من إيمان أمهاتنا لما استحقت الشفاء من يسوع الناصري.

      لذلك ما كنّا يوماً طلاّب زعامات تمّر على طرقاتنا، وما كنّا يوماً أقداماً تركض وراء " كبار" يعبرون شوارعنا. ولا يظنّن أحد أن موكباً يرسم حدود مقاطعات وولايات، بل نحن بإيماننا وعصاميتنا وسماحة قلوبنا وإشراقة وجوهنا نرسم حدود الأرض والسماء.

      أنظر يا أخي، ابن بلدتي إلى وجه سيّدة النجمة، وتأمل مليّاً وجه العذراء الذي انطبع عليه وجوه أمهاتنا وآبائنا يلجأون إليها خاشعين ضارعين، هم يطلبون وهي تستجيب وتفيض. هم ما أحنوا هاماتهم لحاكم أو تزلّفوا له، ولا وهنوا أمام والٍ أو غاصب، بل كانوا أصحاب رأي  وعزيمة كتبوا على صفحات الحياة كلماتٍ ما برحت تتلألأ حروفها في أنحاء قريتي.

      تعال نقرأ ما كتبوا ونفسّر ما سجّلوا.

      نحن أحفاد عظماء، ما فتئت الأرض تحنّ إلى وقع أقدامهم، وما برحت السماء تتكحّل بنبرة أصواتهم، إنهم الأجداد الموارنة الذين ما برحوا بأرواحهم هنا ينتظرون منّا أن نكون كلنا واحداً يعمر فينا إيمانٌ واحد هو إيمان مارون، وثبات واحد هو ثبات فضائل مارون، كما ويطلبون مّنا أن نتمسّك بأمٍّ واحدةٍ هي سيّدة النجمة ملجأنا الحصين نرتل لها ضارعين " يا أمّ الله, يا حنونة، يا كنزة الرحمة والمعونة. أنتِ ملجانا وعليكِ رجانا "...

      تعالَ يا بن قريتي ندعُ أبناء الجيّة المنتشرين في العالم ليمرّوا في موكب المجد فوق أرض الإيمان والكرامة. تعالَ نمرّ أنا وأنت فوق هذه الأرض التي حضنت رُفات الأجداد والآباء المؤمنين، نمرّ عليها لا كما يمرّ الغرباء، نمرّ عليها متشابكي الأيدي متعانقي القلوب، متحابين متضامنين. نحن أهل الأرض التي أنبتت ما جعلني وجعلك أقوياء صامدين في وجه ظلم الأيام وحقد السنين.

      ضُمّني أخي إليك كما تضمُ الأرض حبّة القمح، فتنبت سنابل مثقلة تطعم العالم خيراً بدل أن ننتظره منه.

      تعالَ نفجّر ينابيع العطاء في قريتي ونقول للعالم ومن حولنا: نحن الموارنة في الجيّة علّمنا الشمسَ والقمرَ أن يخشعا أمام قوّة بساطتنا ومضاء عزيمتنا وثبات إيماننا وصفاء ضميرنا.

      لا تخف يا أخي من مارونيتك وعلى مارونيتك، بل ربما يعتريك الخوف لو لم تكن مارونياً. فهل يخاف النور من الظلمة؟ ما هُزمنا مرّة إلاَ وشُيّدت بعد الهزائم المعابد وارتفع العمران لأننا بطبيعتنا وُدعاء وبإيماننا أ قوياء.

      لهذا كلّه، أفتخر بأن أكون مارونيّاً، لأنني هكذا جُبلت.

 

     مخايل  قزّي -  حارة بيت اسعد                                                                                 

      الجيّة–شباط.2004       

 

 

———————————————————————————————————————————
JiehOnline® For more info please email webmaster